لم أعد أهتم بمظهري او بأي من أموري الخاصة، ابتعدت كلياً عن ممارسة هواياتي والنشاطات التي كانت تسعدني، فأنا أمضي كل وقتي الى جانب طفلي، أهتم به، بالكاد أستطيع أن ألبي حاجاته الكثيرة. لم يعد لدي فسحة من الوقت لأهتم بشغل البيت وترتيبه وتنظيفه وتحضير الطعام. أما وظيفتي، فقد تخليت عنها بعد الولادة مباشرة، لأنني لم أكن مستعدة لترك طفلي مع شخص غريب يعنى به».
هذا ما تقوله دنيا التي أنجبت منذ خمسة أشهر مولودها الأول وهي في سن الخامسة والعشرين. قد يبدو اضطراب هذه الام مبالغا فيه. المفروض انها في سن تسمح لها بتفهم مرحلة ما بعد الولادة، وبالتالي تدبير أمورها بشكل متوازن، الا ان الحقيقة في مكان آخر.
فالاجواء العائلية التي كانت سائدة قبل أكثر من عقدين من الزمن كانت تساهم بالتخفيف من عبء هذه المرحلة، حيث كانت الام والحماة والجارات يتبرعن لمساندة الأم، وتحديدا لدى وضعها مولودها الاول.
اليوم، هذه العادة تكاد تندثر. وعلى كل امرأة ان تتدبر نفسها بمفردها. وليس صحيحا ان النظريات والقواعد العامة تكفي لتوجيه النساء بعد الولادة. فكل تجربة لها خصوصيتها وكل رضيع «يفرض» على والديه اسلوب تعامل خاصا، قد لا تنفع فيه النظريات والتعليمات، لتبقى الأولوية للتجربة الخاصة.
ليلى، ابنة الثانية والعشرين، تسمي هذه التجربة «خلل ما بعد الولادة». وتشرح وضعها، فتقول:«كنت متحمسة جداً لمشروع الزواج والعائلة، وكانت الفرحة تغمرني طوال فترة الحمل، لكن حالتي تبدّلت كلياً بعد الولادة، اذ بدأت أحس بأن هموم الدنيا كلها فوق رأسي، والسبب خوفي من مسؤولية العناية بمولود صغير.
صحيح أن والدتي تزورني بانتظام وتزودني بالنصائح والإرشادات إلا ان هذا ليس كافيا، فما أن أنفرد مع ابني حتى ينتابني الخوف والقلق وعدم الثقة بالنفس. وفي معظم الاحيان أستسلم للحزن والبكاء، وأكثر ما يحزنني أني أحب طفلي كثيراً وأدرك جيداً أن لا ذنب له في كل ما يحدث لي».
أما إلهام، 26 عاماً، فقد ضحت بوظيفتها بعدما انتهت اجازة الأمومة التي استمرت أربعين يوماً لأنها لم تتمكن من التوفيق بين الأمومة والعمل. تقول: «كنت متحمّسة جداً للعودة الى العمل ومقتنعة بأن المرأة يمكنها أن تكون عاملة ناجحة وأماً صالحة في الوقت نفسه، ولكن الظروف الاجتماعية عاكست أحلامي. كان عليّ أن أحمل ابنتي الى جدتها كل صباح، والنتيجة اني كنت أتأخر عن المكتب، كما كنت أضطر أحيانا لمغادرة عملي باكراً لأصطحب ابنتي الى الطبيب أو لأسباب أخرى طارئة، مما دفع صاحب العمل إلى الاستغناء عن خدماتي نهائياً. كنت أتمنى لو منحني مزيداً من الوقت لتنظيم حياتي».
وهكذا تعددت الأسباب لتبقى النتيجة واحدة، فالنساء الثلاث يعانين حالة الارباك ذاتها ولكن بدرجات متفاوتة. من يسمع الواحدة منهن تشكي همومها يظن أنها تبالغ في الأمر أو أنها حالة شاذة، مع أنه توجد في الواقع الاجتماعي نماذج مشابهة كثيرة. الاختصاصية في علم النفس العيادي، الدكتورة ماري روز شاهين، تقول:«الأرجح أن هذه الحالة ناتجة عن ظروف جسدية وعاطفية واجتماعية مختلفة لا يمكن الهروب منها، كما ان الأمهات يتعرضن عادةً الى تغيّرات بيولوجية وعاطفية واجتماعية خلال الأيام الأولى التي تلي الولادة.
وهذا ما يسبب لهن شعوراً مزعجاً وكآبة نفسية، وهي حالة شائعة جداً تُصيب 80% من الأمهات وتعتبر شكلاً خفيفاً من الاكتئاب. وتتجلى أعراضها في الشعور المفرط بالقلق والتوتر والبكاء والارهاق وعدم القدرة على النوم. ولكن هذه الحالة عادة ما تكون قصيرة المدى وسرعان ما تتبدد، ولا تعتبر حالة مرضية الا اذا استمرت لأكثر من شهر، لتشكل ما يسمى بداية لاكتئاب ما بعد الولادة».
وتتابع:«ترافق مرحلة ما بعد الولادة بعض التغيرات العاطفية التي تؤثر سلباً في حالة الأم النفسية. وغالباً ما يختلف واقع الأمومة عن الأحاسيس التي تشعر بها النساء خلال فترة الحمل. فبعد الولادة تشعر الأم بارهاق جسدي كبير لما يتطلبه الطفل من رعاية مستمرة تحرمها من الراحة والنوم، إلى جانب عدم الخبرة». المشكلة أن أغلبية الناس لا يتعرفون أو لا يعترفون بأن بعض الأمهات يشعرن بالخجل والإحراج في طلب المساعدة، مع أن الحل الأفضل هو الاعتراف بوجود المشكلة، وطلب المساعدة من أحد الأشخاص المقرّبين.
ولأن الطفل يأخذ الأولوية، يفترض تنظيم الوقت بالشكل الصحيح، ولا يهم أن تكون ربّة بيت كاملة يشار لها بالبنان، إذ يمكن ان تستعين بخادمة ولو مؤقتا. كما عليها أن تتغذى بطريقة صحية، وأن تجد لنفسها وقتاً للنوم والراحة. ومن المهم جداً أن تقلل نشاطاتها الاجتماعية والترفيهية، خصوصاً اذا كانت سيدة اجتماعية ناشطة.
أما بالنسبة للمرأة العاملة، فيجب عليها التوفيق قدر المستطاع بين وظيفتها وطفلها. كما يمكنها العمل بدوام جزئي اذا لزم الأمر. فلا تشعر بالذنب تجاه طفلها اذا تركته تحت رعاية والدتها أو حماتها أو في حضانة للأطفال. ولكن الظروف الاجتماعية قد تعاكس بعض الأمهات، كما حصل مع الهام مثلاً، فتجبر على ترك وظيفتها مقابل الاهتمام بطفلها. الأمر الذي يصيبها بكآبة نفسية قصيرة أو طويلة المدى، خصوصاً اذا لم تجد عملا.
وفي مقارنة سريعة بين أمهات اليوم وأمهات الأمس، تشير الدكتورة شاهين الى «ان حالة الاكتئاب هذه لطالما كانت موجودة، لكن بنسب ضئيلة جداً. ويعود ذلك الى اختلاف الظروف الاجتماعية التي تعيشها المرأة اليوم، فهي تتحمل مسؤوليات عديدة خارج المنزل وداخله، وتعاني ضغوطا نفسية واجتماعية مختلفة. وعندما تصبح أماً للمرّة الأولى، من الطبيعي أن تشعر بالاحباط والخوف والقلق، ويولد عندها هاجس الوقت، كيف ستوفق بين وظيفتها من جهة وطفلها من جهة أخرى ؟
كما أن شابات اليوم يتزوّجن وليس عندهن أي خبرة في رعاية الأطفال وتربيتهم، الأمر الذي يتطلب منهن المزيد من الوقت. بينما في الماضي كانت جداتنا يحرصن على تعليم بناتهن كل الأمور المتعلقة بالبيت والأطفال، قبل التفكير بمشروع الزواج، ومع ذلك كانت الأم تلازم ابنتها لأربعين يوما بعد الولادة وتقدم لها المساعدة اللازمة».